سورة الزخرف - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزخرف)


        


{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)}
يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله موسى، عليه السلام، أنه ابتعثه إلى فرعون وملئه من الأمراء والوزراء والقادة، والأتباع والرعايا، من القبط وبني إسرائيل، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة ما سواه، وأنه بعث معه آيات عظاما، كيده وعصاه، وما أرسل معه من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، ومن نقص الزروع والأنفس والثمرات، ومع هذا كله استكبروا عن اتباعها والانقياد لها، وكذبوها وسخروا منها، وضحكوا ممن جاءهم بها. {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} ومع هذا ما رجعوا عن غيهم وضلالهم، وجهلهم وخبالهم. وكلما جاءتهم آية من هذه الآيات يضرعون إلى موسى، عليه السلام، ويتلطفون له في العبارة بقولهم: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} أي: العالم، قاله ابن جرير. وكان علماء زمانهم هم السحرة. ولم يكن السحر عندهم في زمانهم مذموما، فليس هذا منهم على سبيل الانتقاص منهم؛ لأن الحال حال ضرورة منهم إليه لا تناسب ذلك، وإنما هو تعظيم في زعمهم، ففي كل مرة يَعِدُون موسى عليه السلام إن كشف عنهم هذا أن يؤمنوا ويرسلوا معه بني إسرائيل. وفي كل مرة ينكثون ما عاهدوا عليه، وهذا كقوله تعالى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف: 133- 135].


{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ (56)}.
يقول تعالى مخبرا عن فرعون وتمرده وعتوه وكفره وعناده: أنه جمع قومه، فنادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي}، قال قتادة قد كانت لهم جنان وأنهار ماء، {أَفَلا تُبْصِرُونَ}؟ أي: أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك، يعني: وموسى وأتباعه فقراء ضعفاء. وهذا كقوله تعالى: {فَحَشَرَ فَنَادَى. فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى. فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى} [النازعات: 23- 25].
وقوله: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} قال السدي: يقول: بل أنا خير من هذا الذي هو مهين.
وهكذا قال بعض نحاة البصرة: إن {أم} هاهنا بمعنى بل. ويؤيد هذا ما حكاه الفراء عن بعض القراء أنه قرأها: {أما أنا خير من هذا الذي هو مهين}. قال ابن جرير: ولو صحت هذه القراءة لكان معناها صحيحا واضحا، ولكنها خلاف قراءة الأمصار، فإنهم قرؤوا: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ}؟ على الاستفهام.
قلت: وعلى كل تقدير فإنما يعني فرعون- عليه اللعنة- أنه خير من موسى، عليه السلام، وقد كذب في قوله هذا كذبا بينا واضحا، فعليه لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
ويعني بقوله: {مهين} كما قال سفيان: حقير.
وقال قتادة والسدي: يعني: ضعيف.
وقال ابن جرير: يعني: لا ملك له ولا سلطان ولا مال.
{وَلا يَكَادُ يُبِينُ} يعني: لا يكاد يفصح عن كلامه، فهو عيي حصر.
قال السدي: {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} أي: لا يكاد يفهم.
وقال قتادة، والسدي، وابن جرير: يعني عيي اللسان.
وقال سفيان: يعني في لسانه شيء من الجمرة حين وضعها في فيه وهو صغير.
وهذا الذي قاله فرعون- لعنه الله- كذب واختلاق، وإنما حمله على هذا الكفر والعناد، وهو ينظر إلى موسى، عليه السلام، بعين كافرة شقية، وقد كان موسى، عليه السلام، من الجلالة والعظمة والبهاء في صورة يبهر أبصار ذوي الأبصار والألباب. وقوله: {مهين} كذب، بل هو المهين الحقير خِلْقةً وخلقا ودينا. وموسى عليه السلام هو الشريف الرئيس الصادق البار الراشد. وقوله: {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} افتراء أيضا، فإنه وإن كان قد أصاب لسانه في حال صغره شيء من جهة تلك الجمرة، فقد سأل الله، عز وجل، أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله، وقد استجاب الله له في ذلك في قوله: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 26]، وبتقدير أن يكون قد بقى شيء لم يسأل إزالته، كما قاله الحسن البصري، وإنما سأل زوال ما يحصل معه الإبلاغ والإفهام، فالأشياء الخلقية التي ليست من فعل العبد لا يعاب بها ولا يذم عليها، وفرعون وإن كان يفهم وله عقل فهو يدري هذا، وإنما أراد الترويج على رعيته، فإنهم كانوا جهلة أغبياء، وهكذا كقوله: {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} أي: وهي ما يجعل في الأيدي من الحلي، قاله ابن عباس وقتادة وغير واحد، {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} أي: يكتنفونه خدمة له ويشهدون بتصديقه، نظر إلى الشكل الظاهر، ولم يفهم السر المعنوي الذي هو أظهر مما نظر إليه، لو كان يعلم؛ ولهذا قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} أي: استخف عقولهم، فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}.
قال الله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {آسفونا} أسخطونا.
وقال الضحاك، عنه: أغضبونا.
وهكذا قال ابن عباس أيضا، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب القرظي، وقتادة، والسدي، وغيرهم من المفسرين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب، حدثنا عمي، حدثنا ابن لهيعة، عن عقبة بن مسلم التجيبي عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد ما شاء، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك استدراج منه له» ثم تلا {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}.
وحدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني، حدثنا قيس بن الربيع، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: كنت عند عبد الله فذكر عنده موت الفجأة، فقال: تخفيف على المؤمن، وحسرة على الكافر. ثم قرأ: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}.
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: وجدت النقمة مع الغفلة، يعني قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}.
وقوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ}: قال أبو مجلز: {سَلَفًا} لمثل من عمل بعملهم.
وقال هو ومجاهد: {ومثلا} أي: عبرة لمن بعدهم.


{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)}.
يقول تعالى مخبرا عن تعنت قريش في كفرهم وتعمدهم العناد والجدل: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قال غير واحد، عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، والسدي: يضحكون، أي: أعجبوا بذلك.
وقال قتادة: يجزعون ويضحكون.
وقال إبراهيم النخعي: يعرضون.
وكان السبب في ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة حيث قال: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني- يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} الآيات [الأنبياء: 98]. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عبد الله بن الزّبعَرى التميمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن الزبعرى: أما والله لو وجدته لَخَصَمْتُه، سلوا محمدا: أكلّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده، فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم؟ فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذُكِر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كل من أحب أن يعبد من دون الله، فهو مع من عبده، فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته» فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] أي: عيسى وعزير ومن عبد معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله، عز وجل، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله. ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} الآيات [الأنبياء: 26]، ونزل فيما يذكر من أمر عيسى وأنه يعبد من دون الله. وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} أي: يصدون عن أمرك بذلك من قوله. ثم ذكر عيسى فقال: {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ. وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} أي: ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام، فكفى به دليلا على علم الساعة، يقول: {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}.
وذكر ابن جرير من رواية العَوفي، عن ابن عباس قوله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قال: يعني قريشا، لما قيل لهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] إلى آخر الآيات، فقالت له قريش: فما ابن مريم؟ قال: «ذاك عبد الله ورسوله». فقالوا: والله ما يريد هذا إلا أن نتخذه ربا، كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ربا، فقال الله تعالى {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا شيبان، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن أبي رَزِين، عن أبي يحيى- مولى ابن عقيل الأنصاري- قال: قال ابن عباس: لقد علمت آية من القرآن ما سألني عنها رجل قط، فما أدري أعلمها الناس فلم يسألوا عنها، أم لم يفطنوا لها فيسألوا عنها. قال: ثم طفق يحدثنا، فلما قام تلاومنا ألا نكون سألناه عنها. فقلت: أنا لها إذا راح غدا. فلما راح الغد قلت: يا ابن عباس، ذكرت أمس أن آية من القرآن لم يسألك عنها رجل قط، فلا تدري أعلمها الناس أم لم يفطنوا لها؟ فقلت: أخبرني عنها وعن اللاتي قرأت قبلها. قال: نعم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش: «يا معشر قريش، إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير»، وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى ابن مريم، وما تقول في محمد، فقالوا: يا محمد، ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا من عباد الله صالحا، فإن كنت صادقا كان آلهتهم كما تقولون؟ قال: فأنزل الله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}. قلت: ما يَصِدون؟ قال: يضحكون، {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} قال: هو خروج عيسى ابن مريم قبل القيامة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن يعقوب الدمشقي، حدثنا آدم، حدثنا شيبان، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن أبي أحمد مولى الأنصار، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر قريش، إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير». فقالوا له: ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا من عباد الله صالحا، فقد كان يُعبد من دون الله؟ فأنزل الله عز وجل: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}.
وقال مجاهد في قوله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}: قالت قريش: إنما يريد محمد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى. ونحو هذا قال قتادة.
وقوله: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ}: قال قتادة: يقولون: آلهتنا خير منه.
وقال قتادة: قرأ ابن مسعود: {وقالوا أآلهتنا خير أم هذا}، يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا} أي: مراء، وهم يعلمون أنه ليس بوارد على الآية؛ لأنها لما لا يعقل، وهي قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]. ثم هي خطاب لقريش، وهم إنما كانوا يعبدون الأصنام والأنداد، ولم يكونوا يعبدون المسيح حتى يوردوه، فتعين أن مقالتهم إنما كانت جدلا منهم، ليسوا يعتقدون صحتها.
وقد قال الإمام أحمد، رحمه الله تعالى: حدثنا ابن نمير، حدثنا حجاج بن دينار، عن أبي غالب، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه، إلا أورثوا الجدل»، ثم تلا هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}.
وقد رواه الترمذي، وابن ماجه، وابن جرير، من حديث حجاج بن دينار، به. ثم قال الترمذي: حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديثه كذا قال.
وقد روي من وجه آخر عن أبي أمامة بزيادة فقال ابن أبي حاتم: حدثنا حميد بن عياش الرملي، حدثنا مؤمَّل، حدثنا حماد، أخبرنا ابن مخزوم، عن القاسم أبي عبد الرحمن الشامي، عن أبي أمامة- قال حماد: لا أدري رفعه أم لا؟- قال: ما ضلت أمة بعد نبيها إلا كان أول ضلالها التكذيب بالقدر، وما ضلت أمة بعد نبيها إلا أعطوا الجدل، ثم قرأ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}
وقال ابن جرير أيضا: حدثنا أبو كريب، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، عن عباد بن عباد، عن جعفر، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن، فغضب غضبا شديدا حتى كأنما صب على وجهه الخل، ثم قال: «لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فإنه ما ضل قوم قط إلا أوتوا الجدل»، ثم تلا {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}.
وقوله: {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} يعني: عيسى، عليه السلام، ما هو إلا عبد من عباد الله أنعم الله عليه بالنبوة والرسالة، {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: دلالة وحجة وبرهانا على قدرتنا على ما نشاء.
وقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ} أي: بدلكم {مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ}، قال السدي: يخلفونك فيها.
وقال ابن عباس، وقتادة: يخلف بعضهم بعضا، كما يخلف بعضكم بعضا. وهذا القول يستلزم الأول.
وقال مجاهد: يعمرون الأرض بدلكم.
وقوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ}: تقدم تفسير ابن إسحاق: أن المراد من ذلك: ما بُعث به عيسى، عليه السلام، من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وغير ذلك من الأسقام. وفي هذا نظر. وأبعد منه ما حكاه قتادة، عن الحسن البصري وسعيد بن جبير: أي الضمير في {وإنه}، عائد على القرآن، بل الصحيح أنه عائد على عيسى عليه السلام، فإن السياق في ذكره، ثم المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة، كما قال تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: قبل موت عيسى، عليه الصلاة والسلام، ثم {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159]، ويؤيد هذا المعنى القراءة الأخرى: {وإنه لعَلَم للساعة} أي: أمارة ودليل على وقوع الساعة، قال مجاهد: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} أي: آية للساعة خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة.
وهكذا روي عن أبي هريرة رضي الله عنه، وابن عباس، وأبي العالية، وأبي مالك، وعكرمة، والحسنن وقتادة، والضحاك، وغيرهم.
وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى ابن مريم، عليه السلام قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا.
وقوله: {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} أي: لا تشكوا فيها، إنها واقعة وكائنة لا محالة، {واتبعون} أي: فيما أخبركم به {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} أي: عن اتباع الحق {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} أي: بالنبوة {وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ}
قال ابن جرير: يعني من الأمور الدينية لا الدنيوية. وهذا الذي قاله حسن جيد، ثم رد قول من زعم أن {بعض} هاهنا بمعنى كل، واستشهد بقول لبيد الشاعر:
تَرّاك أمْكنَة إذَا لم أرْضَها *** أو يَعْتَلق بَعْضَ النفوس حمَامُها
وأولوه على أنه أراد جميع النفوس. قال ابن جرير: وإنما أراد نفسه فقط، وعبر بالبعض عنها. وهذا الذي قاله محتمل.
وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ} أي: فيما أمركم به، {وأطيعون}، فيما جئتكم به، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي: أنا وأنتم عبيد له، فقراء إليه، مشتركون في عبادته وحده لا شريك له، {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي: هذا الذي جئتكم به هو الصراط المستقيم، وهو عبادة الرب، عز وجل، وحده.
وقوله: {فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} أي: اختلفت الفرق وصاروا شيعا فيه، منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله- وهو الحق- ومنهم من يدعي أنه ولد الله، ومنهم من يقول: إنه الله- تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا- ولهذا قال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}

1 | 2 | 3 | 4